تختزن «التوراة» تحريضاً على القتل السافر إلى حد الإبادة. وهذا ما يحدث الآن في غزة، حيث يُقتل البشر بمذبحة لم يشهد لها التاريخ الحديث مثالاً، وتُطبق تعاليم القتل بحذافيرها: الشهداء يلامس عددهم الـ 40 ألفاً، ونسبة الدمار في جميع أنحاء القطاع تراوح بين 40 و100%، ولم تسلم المدارس والجامعات ودور العبادة والأبنية التراثية من التدمير الممنهج.لقد زخر تاريخ إسرائيل منذ نشوئها على أرض فلسطين بالمجازر الجماعية، فخلال المعارك التي دارت بين العصابات الصهيونية الإرهابية المسلحة في سنة 1947 وامتداداً إلى سنة 1948، بل وفي مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، تم تدمير ما يفوق 428 من أصل 957 قرية فلسطينية وتهجير أهلها منها.
في سنة 1969 ألقى موشي ديان كلمة في معهد «التخنيون» في حيفا تطرق فيها إلى تدمير القرى الفلسطينية، فقال: «لقد أُقيمت القرى اليهودية مكان القرى العربية. أنتم لا تعرفون حتى أسماء هذه القرى العربية، وأنا لا ألومكم، لأن كتب الجغرافيا لم تعد موجودة. وليست كتب الجغرافيا وحدها التي لم تعد موجودة، بل القرى العربية نفسها زالت أيضاً» (مقدّمة كتاب «كي لا ننسى»، تحرير وليد الخالدي، إصدار مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 3، 2001، ص xxxvii)

غزة: المجزرة المفتوحة
لقد بلغ عدد المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية قبل وخلال 1948، والجيش الإسرائيلي بعد 1948 وحتى 1966، نحو 84 مذبحة. ومن ضمن هذه المجازر كان لقطاع غزة ثلاثة منها: مجزرة غزة الأولى في 2 شباط 1955 وسقط فيها 39 شهيداً و33 جريحاً؛ مجزرة غزة الثانية وارتُكبت على مرحلتين، الأولى في أيار 1955، والثانية في أيلول من العام نفسه، سقط خلالهما 102 شهيد و153 جريحاً؛ مذبحة غزة الثالثة، وارتكبها الجيش الإسرائيلي في مدينة خان يونس في 3 تشرين الثاني، وراح ضحيتها 275 شهيداً. وفي مرحلة ما بعد هزيمة حزيران 1967، ارتُكبت العديد من المجازر في قطاع غزة، منها: مجزرة خان يونس في تشرين الثاني 2001، وفي سنة 2002 سُجّل عدد من المجازر، في رفح في شباط، ومخيم جباليا في آذار، وحي الدرج في مدينة غزة في تموز، والشيخ عجلين جنوب مدينة غزة في آب، وخان يونس في تشرين الأول، والبريج في كانون الأول. وفي 2003 ارتكب الجيش الإسرائيلي عدداً من المجازر، منها: حي الزيتون في كانون الثاني، ومخيم جباليا في آذار، والشجاعية في أيار، وفي شارع مزدحم شرقي مدينة غزة في حزيران (تُعرف بمجزرة شريان غزة). وفي 2004 ارتكبت 5 مجازر: حي الزيتون في كانون الثاني، والنصيرات والبريج في آذار، وفي الشهر نفسه ارتُكبت مجزرة في حي الصبرة في مدينة غزة، وشهدت مدينة رفح عدداً من المجازر المتواصلة في أيار، ومنطقة السعف في الشجاعية في أيلول، واختُتمت سنة 2004 بمجزر حي الشجاعية في كانون الأول.
لقد بلغ عدد المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية قبل وخلال 1948، والجيش الإسرائيلي بعد 1948 وحتى 1966، نحو 84 مذبحة


غزة ما بعد الانسحاب
سنة 2005 دخل قطاع غزة مرحلة جديدة، إذ قررت إسرائيل التي كان يقودها في حينه أرييل شارون الانسحاب من القطاع وتفكيك المستوطنات، لكن هذا الانسحاب لم ينه المجازر التي تواصلت، فشهدت بيت لاهيا أولى المجازر بعد الانسحاب، في كانون الثاني. وبعد الخلاف الدموي بين «فتح» و«حماس» في سنة 2007 وسيطرة الأخيرة على قطاع غزة، أعلنت إسرائيل القطاع «كياناً معادياً»، وفرضت حصاراً محكماً عليه، لتبدأ مرحلة جديدة من سفك دم غزة، عبر اغتيالات قادة من الفصائل، وشنّ عدد من الحروب، الأولى كانت تحت اسم «الرصاص المصبوب» بين كانون الأول 2008، و18 كانون الثاني 2009، ثم «عامود السحاب» في تشرين الثاني، و«الجرف الصامد» في تموز 2014، «صيحة الفجر» في تشرين الثاني 2019، «حارس الأسوار» أيار 2021، و«الفجر الصادق» في آب 2022.
لقد تميزت مرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة بحروب مواجهة بين المقاومين الفلسطينيين، تتقدّمهم «حماس»، والجيش الإسرائيلي الذي على الرغم من فارق ميزان القوى المائل جداً لمصلحته، وارتكابه عمليات قتل دموية، إلا أن المواجهات أسفرت أيضاً عن سقوط قتلى في صفوفه وفي صفوف المستوطنين عبر قصف المستعمرات الإسرائيلية بصواريخ يُمكن وصفها بالبدائية، أو القديمة وغير المؤثرة كثيراً.
لقد بات قطاع غزة، على الرغم من الحصار الخانق، مركز ثقل للمقاومة الفلسطينية التي باشرت بناء قدرات عسكرية، راكمتها شيئاً فشيئاً، معتمدة على حلفائها الإقليميين، وعلى بناء قدرات ذاتية تصنيعية.
على أنه حتى هذه المرحلة، يُمكن وصف المواجهة بالكلاسيكية، بين جيش هو الأقوى في المنطقة، وحركات مقاومة.

طوفان الأقصى: تبدّل المعايير
جاءت عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول لتقلب معايير المواجهة، فللمرة الأولى تُبادر المقاومة الفلسطينية إلى الهجوم، وبعملية نوعية مدروسة فاجأت إسرائيل وحلفاءها، بل وحلفاء المقاومة الفلسطينية أيضاً. لقد تمكن ألف مقاتل ونيّف من كتائب «الشهيد عز الدين القسام» من اجتياح منطقة بعمق 40 كيلومتراً فيما يُطلق عليه «غلاف غزة»، وسيطرت على المقار القيادية للجيش الإسرائيلي وعلى أهم معسكراته، بعدما كسرت جميع الحواجز الجدارية والإلكترونية التي بنتها إسرائيل بمليارات الدولارات، واعتبرتها حواجز لا يُمكن اجتيازها. وخسر الجيش الإسرائيلي في هذه العملية ما لم يخسره في أي معركة سابقة. وتزامناً مع اقتحام الجدار الفاصل بين غزة والأراضي المحتلة خلال وبعد 1948، أمطرت العمق الإسرائيلي وصولاً إلى تل أبيب بمئات الصواريخ الثقيلة.
بدت إسرائيل في الساعات الأولى للعملية على وشك الانهيار، الأمر الذي استدعى استنفار حلفائها الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي فتحت جسوراً جوية وبحرية أمدّت الجيش الإسرائيلي بما يحتاج إليه من سلاح قاتل، وهبط الرئيس الأميركي بايدن، وقادة أوروبا في إسرائيل معلنين تضامنهم معها وتأييدهم لحرب باشرت شنها على قطاع غزة، كانت منذ لحظاتها الأولى تدميرية.
لكن لم يكن هذا وحده الذي سجّل تغيّراً في المعايير. فقد كانت إسرائيل تهتز داخلياً على وقع سيطرة اليمين الديني الصهيوني المتطرف على السلطة، والذي يستعير من التوراة أكثر أسفارها دموية. هذا اليمين التوراتي الصهيوني لم يعد يتعامل مع القتل كعملية يُقصد منها تحقيق هدف سياسي يتراكم مع الوقت ليحقق رؤى استراتيجية مثلما جرت العادة قبل ذلك، أي أن تُرتكب المجازر في منطقة ما، بهدف تهجير منطقة أُخرى، أو بهدف زرع الخوف والرعب في قوى ودول، تدفعها للتفكير ملياً قبل القيام بأي عمل عدائي ضد إسرائيل.
ما حدث إسرائيلياً بعد 7 تشرين الأول 2023، أن كشف النظام الصهيوني الديني عن نزوع نحو القتل مثلما ورد في الأسفار القديمة، وبات السائد هو تطبيق الإصحاح السادس من سفر «يوشع» بحذافيره على غزة وأهلها بأن يُقتل كل «رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير»، والإصحاح 5 «تهدمون مذابحهم، وتُكَسِّرون أنصابهم، وتُقطِّعون سواريهم».

* صحافي فلسطيني